من الذاكرة .. بطل شيشاني يترجل .. يوسف تيميرخانوف

من الذاكرة .. بطل شيشاني يترجل .. يوسف تيميرخانوف

8027
0

د. محمد الأمين مقراوي الوغليسي

2018/8/9

 

في الوقت الذي تزداد فيه التفاهة بين الكثير من الشباب -الذي صار يتهافت على أتفه الأشياء، كتنافسه على تقليد رقصة كيكي الغربية- تظهر بين الفينة والأخرى بارقة أمل في هذه الأمّة العظيمة، ولعل ما حصل في الشيشان هذا الأسبوع أحد المبشرات بعودة الأمة الإسلامية إلى دينها ورشدها عاجلا أم آجلا.

ولا شك أن ما حدث في أرض الشيشان هذا الأسبوع أحد المبشرات التي تنبئ بعودة المسلمين إلى دينهم؛ رغم كل الأوضاع المأساوية التي تعيشها الأمة في مختلف بقاع الأرض.. وقبل التعريج على هذا الحدث، فإنه ينبغي علينا التذكير بما حدث قبلها حتى يكون القارئ في الصورة.. إن الأحداث التي مرت بها أرض الشيشان في الحرب الثانية كانت مأساوية إلى الحد الذي يجعل حصرها ووصفها أمرا صعبا، ولعل أبرز تلك الأحداث، ما ارتكبه العقيد الروسي يوري بودانوف من جرائم سيذكرها مسلمو القوقاز زمنا طويلا.

* بودانوف مغتصب المسلمات:

يوري بودانوف أحد أكبر مجرمي حرب الشيشان الثانية، وقد اشتهر أثناء الحرب الشيشانية الثانية بظهوره أـمام المراسلين الحربيين وهو يصدر أوامر القصف الوحشي للمنازل الشيشانية، وقد كان يظهر دائما سروره بأفعاله واستمتاعه بقتل وتعذيب المسلمين على أرض نوختشيشو.

ففي شهر مارس، قامت قوات روسية بقيادة العقيد يوري بودانوفبهجوم كبيرعلى قرية تانغيشو الشيشانية، بعد أن استمر حصارها أربعة أشهر كاملة نتج عنه وفاة 450 على مستوى الأطفال وفقدان سبعين بسبب البرد والجوع والأمراض، وخلف الهجومي الروسي عشرات القتلى والجرحى من السكان، كما ألحقت المدفعية الروسية وسلاح الهاون دمارا هائلا في المنازل، جعل السكان يهجرون قريتهم.

غير أن أبرز حدث في تلك الأيام، ما فعله العقيد بودانوف يوم 26 من شهر مارس 2000، حيث قام باختطاف الطفلة إلسا كونغايافا، والبالغة من العمر 17 سنة، بينما تحاول الصحافة الروسية رفع عمرها إلى 18 عاما لأغراض معروفة، ثم قام باقتيادها إلى مركز وحدته؛ ليقوم بتعذيبها بوحشية، ثم خنقها حتى الموت، ثم باغتصابها بسادية بعد قتلها، ما أثار غضبا شديدا بين المسلمين على هذه الأرض المباركة، وضجة كبيرة، انتهت بالقبض عليه ومحاكمته محاكمة صورية سنة 2003، وقد اعترف للقاضي بجريمته، وبرر ذلك بأنه ارتكب جريمته بعد أن فقد غضبه بسبب مقتل عدد من جنوده على يد القناصة الشيشان، وأنه اشتبه في أن الفتاة من هؤلاء القناصة.

وانتهت المحاكمة بإسقاط تهمة الاغتصاب عنه، والاكتفاء باتهامه بتجاوز حدود السلطة العسكرية الممنوحة له، وهو ما ضاعف الشعور بالمهانة لدى الشعب الشيشاني، مع العلم أنّ التقرير الطبي الذي قدمه خبراء مركز الطب الشرعي في موسكو والذي نقلته وكالة الأنباء الروسية وقدم لمحكمة روستوف، قد أكد أنّ ألسا كونغاييفا اغتصبت بعد خنقها، لكن الروس حاولوا بطريقة ما الإمعان عمدا بإهانة مشاعر المسلمين الشيشان.

* بودانوف يتحول إلى بطل قومي:

احتفى القوميون الروس بجريمة بودانوف، وأطلقت الحركة القومية الروسية عليه لقب “أفضل رجل روسي” كما صدرت في مدحه الأشعار والأغاني التي تمجد بطولاته في أرض الشيشان. وانبرت جمعية علماء النفس الروس للدفاع عنه، إذ جاء في تقرير لهم: أن العقيد بودانوف كان “غير مسؤول” وقت وقوع الجريمة، ولم يكتفوا بذلك، بل طالبوا بالعفو عنه. أما هيئة الدفاع الروسية المكونة من محامين روس تطوعوا للدفاع عن بطلهم وليس موكلهم فقط، فقد طالبت بالإفراج عنه، لأن التهمة غير مؤسسة قانونيا.

* موقف فلاديمير بوتين من بودانوف:

بعد تلك الحادثة بأيام معدودة تمكن الشيشانيون من نصب كمين كبير ضد نخبة القوات الروسية الخاصة، في منطقة جاني فودينو جنوب العاصمة الشيشانية غروزني، وقد تكبد الروس خسائر مادية وبشرية كبيرة، حيث أدّى هذا الكمين إلى مقتل حوالي 43 عسكريا روسيا، والقبض على 9 جنود روس. وبعد هذه العملية القوية طالب الشيشانيون رسميا تسليمهم بودانوف مقابل إطلاق سراح الجنود التسعة، وقدموا مهلة تنتهي فجر يوم الثلاثاء 06/04/2000، وإلا تم إعدامهم.

كان فلاديمير بوتين المسؤول الأول عن الحرب الشيشانية، والمسؤول عن كل القرارات الصادرة إلى الجيش الروسي في الشيشان، فكان قراره رفض تسليم العقيد بودانوف للشيشانيين مقابل إطلاق سراح جنوده، وهذا غير مستغرب، فهو مستبد واشتهر بتصريحاته الخطيرة في تلك الحرب، ومما قاله: “سنستمر في الحرب، ولو لزم الأمر محاربة الله لحاربناه”. وقد كان قرار بوتين تشجيعا صريحا لجيشه بأن روسيا ستمضي قدما في حماية قادتها حتى لو ثبت أنهم ارتكبوا أبشع الجرائم. وفي فجر الثلاثاء نفذ الشيشانيون وعيدهم، وأعدموا الجنود الروس بعيد انتهاء المحددة لحكومة بوتين.

* الشيشانيون لا ينسون أعداءهم:

في 15 يناير عام 2009، أعلنت مديرية السجون والإصلاحات بمقاطعة أوليانوفسك إطلاق سراح بودانوف، بعد أن قضت محكمة مدينة ديميتروفسك بذلك، مع العلم أنه لم يكمل محكوميته، لتثور ثائرة الشيشانيين، الذين رأوا أن بقاءه حيّا هو امتهان لكرامتهم، وقد باءت محاولاتهم برفع دعاوى قضائية ضده بالفشل. ما جعل بعض الشيشانيين يترصدون له، حتى تمكن يوسف تيميرخانوف من قتل قائد كتيبة الدبابات في الحرب الشيشانية الثانية مجرم الحرب يوري بودانوف في موسكو صباح 10 يونيو 2011، في عملية جريئة تثبت أن أهل القوقاز أهل حرب وشجاعة بالدرجة الأولى، وبعد عملية حثيثة تم القبض على يوسف تيميرخانوف، وحكم عليه بالسجن لمدة 15 سنة في 2013؛ إلا أنّه توفي، قبل أيام، حسب ادعاءات السلطات الروسية في السجن إثر أزمة قلبية، الأمر الذي يشكك فيه بعض العارفين بالعقلية الروسية التي لا تتسامح مع من يقتل أحد رموزها.

* بوتين والكابوس الشيشاني:

لم يكن أحد من الروس يتصور أن الشيشانيين الذين أُخرجوا بالآلاف في عيد ميلاد بوتين، قد يتجرؤون ويخرجون بالآلاف لتشييع جنازة قاتل العقيد الروسي بودانوف، إلا أن هذا قد حدث فعلا، حيث انتشرت في مواقع للتواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر تدفق آلاف الشيشانيين من مختلف البلاد إلى قرية غيلداغان مسقط رأس يوسف تيميرخانوف، لحضور جنازة البطل الشيشاني ومنقذ شرف الشعب كما أطلقوا عليه، وقد اضطر وكيل الإدارة الروسية رمضان قاديروف إلى حضور مراسم التأبين، وتعزية أهله، كما حضر  فيسا كونغاييف، والد الضحية إلسا كونغاييفا، وهو الذي يقيم أساسا في النرويج، مع أنه كان قبل سنوات يقول وهو خائف: “لم نسع إلى قتل المجرم الذي قتل ابنتي، أردت أن ينال عقابه وفق قوانين روسيا”، لكنه حضر ي النهاية ليودع البطل الذي انتقم لابنته وشعبه.

أحدث التفاعل الرهيب مع رحيل يوسف تيميرخانوف زلزالا في روسيا وعلى كافة المستويات، إذ لم يتوقع الروس أن يحدث ذلك؛ بسبب وجود إدارة محلية تعلن تبعيتها المطلقة لروسيا بوتين، وتنتهج أشد أساليب القمع لقتل كل من يشك في عدائه لروسيا.

لقد أثبتت الأيام أن الشعوب المسلمة لا تموت، وأنه مهما حاول العدو الخارجي وأذنابه طمس نور الإيمان والحق من قلوب المسلمين؛ فإن جهوده إلى زوال، ولا شك أن الإحباط واليأس قد ملأ قلوب ساسة روسيا بعد أن رأوا الشعب الذي ظنوا أنهم قد دجنوه يحتفي بمن قتل أحد رموز روسيا في حربها على الشيشان.

إن هذه الأحداث تثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن المستقبل للمسلمين يقينا وحقا، وأن الشر ومعسكر الباطل تندحر قوته ومساحاته فعلا وواقعا؛ حتى يمكن الله المؤمنين من سيادة الأرض وإقامة العدل فيها ونشر الخير والسلام في ربوعها.

About the author

باحث ومراقب لقضايا العالم الكبرى

‎إضافة تعليق

You may also like

حدود الاستبداد وحدود التقوى

  د. أكرم حجازي 19/2/2023   حتى نعرف